<BLOCKQUOTE>
فصول من تاريخ المسرح العراقي (الفصل السادس عشر)
الموصل والمسرح ، من البدايه وحتى 1925
لطيف حسن
عندما كانت الموصل ولايه قائمه بحد ذاتها اداريا في فترة السيطره العثمانيه كانت من اكثر الولايات التي شكلت دولة العراق فيما بعد تقدما في الثقافه، وتنوع الاعراق فيها من عرب وارمن وآثوريين واكراد، والاديان من الاسلام واليهوديه والمسيحيه واليزيديه ، ففيها اقدم الكنائس والاديره التي بناها تلاميذ المسيح عندما انتشروا في الارض بعد الصلب للتبشير بالدين الجديد ، وفيها الخرائب الاثريه البكر لنينوى وآشور التي كان الغرب آنذاك قد فتح عينيه عليها لاول مره ، وفيها الخانات والعشرات من المزارات وتكيات المتصوفه التاريخيه ومقامات فلاسفتهم ، واحتضنت كبار فلاسفة الصوفيه ، والدراويش وطرقهم التعبديه الاستعراضيه ، التي كانت اشهرها طقوس الطريقه المولويه التي انتشرت منها الى كل بقاع العالم الاسلامي ،
كانت الموصل في تلك الفتره مركز اشعاع ثقافي هام ، خرج منها الى البلدان العربيه ، مصر والشام رواد الفنون الاوائل كابن دانيال ، وعثمان الموصلي ، وعائلة الريحاني التي انجبت لمصر نجيب الريحاني ، واخرين كثيرين كانت لهم مساهماتهم المشهوده كرواد في النهضه الثقافيه العربيه فيما بعد .
وموقع الموصل الجغرافي كان مهما جدا لهذا التلاقح والتفاعل الثقافي فيها مع جيرانها من الولايات الاخرى ، لمحاذاته للاراضي التركيه مركز الامبراطوريه العثمانيه ومحاذاته ايضا بلاد الشام ، وقريب ايضا من اصطنبول العاصمه ، وكانت الموصل آنذاك بمثابة العقده التي تتفرع منها كل الطرق التجاريه الخارجيه ، ويمر عبرها طريق الحرير الى الصين .
والموصل قريبه من ولاية حلب المشهوره تاريخيا بانتعاش فن الموسيقى والطرب والانفتاح الاجتماعي ، وحتى فن المسرح الذي دخل اليها قبل الموصل ، وكانت ترتبط بها بوشائج قويه عن طريق اختلاط التجار من الجانبين ، والتزازج الذي كان قائما بين عائلات الطرفين .
وقد تركزت اطماع الفرنسيين عليها بشده ، لاهمية الموصل المذكوره هذه ، في فترة بدء ضعف الامبراطوريه العثمانيه ، واسرعت تمهد للاستيلاء عليها بعد موت الامبراطوريه المحتضره ، لضمها الى مستعمراتها ، فاستغلت الوجود المسيحي المبكر في الموصل كمدخل ، واخذت تخترقهم بضخ الجاليات التبشيريه اليها وارسلت الرهبان الى الاديره والكنائس القديمه في الموصل ، وفتحت المدارس المسيحيه والمستوصفات التي تقدم خدماتها الطبيه للسكان للتقرب منهم .
ودخلت مع بريطانيا في منافسه للتمهيد للصيطرة عليها فيما بعد ، وراحت بريطانيا بدورها ترسل ايضا مبعوثيها من المختصين المتنكرين بملابس اهل المنطقه لوضع الدراسات الجغرافيه والاثنيه والتعرف على عادات وتقاليد القبائل والعشائر وسكان المدن ، وانتعشت في هذه الفتره أنشطة الغرب في التنقيب عن آثار الحضارات القديمه في المنطقه وقامت بنهبها ونقلها الى اوربا بشكل واسع لاسيما ، آثار آشور ونينوى.
كانت بداية تعرف العراقيين على فن المسرح وقواعده بمفهومه الغربي لاول مره من الموصل ، الذي تم عن طريق مدارس الجاليات المسيحيه الفرنسيه التي بدأت تنظم الحفلات المسرحيه المدرسيه التي كانت تقدم فيها مسرحيات كنسيه وتبشيريه .
ان مسرحيات ( ادم وحواء) و( وطوبيا ) و(يوسف الحسن) التي كتبها حنا حبشي ، وتحمل ختمه الممهور على المخطوطه وتاريخ كتابته لها 1884 ، هي اقدم نص كنسي عراقي مخطوط وصلنا لحد الان .
ثم نعثر على تاريخ تقديم مسرحية ( جان دارك ) في سنة 1906 في بناية القاصد الرسولي في الموصل في كتاب ( تاريخ النهضه الفنيه في العراق الحديث ) لمؤلفه عبد المنعم الجادر ، ويذكر الجادر ان اللغه التي مثلت بها كانت الفرنسيه ، ويذكر ايضا ان مدرسة الطاهره للسريان الكاثوليك ، والنادي الكلداني قدما نشاطا فنيا اخر بعد هذه المسرحيه في نفس الفتره تضمن ايضا عروضا تمثيليه ذات طابع ديني .
الا ان المدينه لم تشهد نشاطا مسرحيا حقيقيا الا في بداية العشرينات ، يذكر عبد المنعم الغلامي في كتابه الهام ( اسرار الكفاح الوطني في الموصل الذي يستمد منه المفرجي معلوماته منه ) :-
( ... ان النادي الادبي الذي تأسس في لواء الموصل سنة 1921، قد خطا في وقت قصير من تاريخ حياته خطوات واسعه في تطبيق منهاجه العام ، ومن تلك الحطوات النافعه ، اهتمامه بأمر تمثيل الروايات التي تمثل اهم احداث التاريخ العربي والاسلامي التي تبعث روح اليقظه في نفوس الشباب ، وتطلعهم على سير اجدادهم الماضين ، ولهذا الغرض تألفت لجنه للتمثيل ...).
ويعدد الغلامي اسماء اعضاء اللجنه ، فيذكر ( محمد رؤوف الغلامي ، وحسيب السعدي ، وفاضل السعدي ، وفاضل الصيدلي ، واسماعيل الفرج ، وعبدالمجيد شوقي البكري ،) وهذا يعني انه لم تتشكل فرق مسرحيه في العراق ، او اشبه بالفرق المسرحيه الا بعد عام 1920 .
ويذكر ان هذه اللجنه ( تعتبر اقدم فرقه مسرحيه تشكلت ليس على مستوى الموصل ، بل على مستوى العراق ) قد اجتمعت ووضعت نظام اساس للتمثيل ، يتكون من عدة مواد ، بينها ماده تقول (... ان الغايه من تشكيل هذه اللجنه تأمين فائدة النادي الماديه وتنوير افكار الجمهور بتمثيل روايات تاريخيه يضعها النادي او تنتخبها اللجنه ..) وهناك ماده ثانيه تنص ( .. ان على لجنه ادارة التمثيل ان تنتخب الذواة الصالحين لفن التمثيل وتوزع عليهم الادوار الروائيه حسب القابليه والاستعداد ..)
ويواصل الغلامي (.. وقد قررت اللجنه تمثيل رواية ( فتح عموريه ) وعهد الى عبد المجيد شوقي البكري بوضع الروايه والى فاضل الصيدلي بنظم الاشعار اللازمه لها كما ان اللجنه قررت البحث في رواية ( حمدان الانلس ) وكذلك اعداد رواية ( شهداء الوطنيه الهولنديين) وتحويل طابعها الهولندي الى الطابع العربي ، ثم اجتمعت لجنة ادارة النادي واختارت اربعة عشر ذاتا كأعضاء دائميين للتمثيل وهم: محمد سعيد الجليلي ، وعبدالمجيد شوقي البكري ، وعبالمنعم الغلامي ، ويوسف عزت النائب ، وعبد الجلال محمد بيك ، وسعدالدين زياده ، ومحي الدين الشيخ شهاب ، وعبالرحمن صالح ، وعلى احمد النحاس ، ونجم الدين عبدالله يحيى ، واحمد الصوفي ، وصديق الشيخ على ، وحسيب عبدالفتاح ، وعبدالهادي آل عبيد اغا الجليلي ، ثم وزعت ادوار مسرحية ( فتح عاموريه) على هؤلاء الذوات ..)
ويعلل الغلامي سبب ابدال الممثلين ، بممثلين اخرين فيقول(.. ان هؤلاء الممثلين قد تأخروا عن تمثيل الروايه المذكوره لان بعضا منهم قد تباطأ في حفظ الادوار كما ان البعض الاخر لم يكن يستلم نسخته من المسرحيه ، ولهذا الاسباب اختير اعضاء جدد هم : محمود حمدي الجراح ، ونجم الدين عبدالله اليحيى ، وسعدالدين زياده ، وعبالمنعم الغلامي ، وعلي احمد النحاس ، وقاسم فهمي الشماع ، وجلال محمد بيك ، ونوري حسين اغا الجبوري ، ورشيد البكري ، وحسن العثمان ، وفلح خيري ، وعبدالغفور الحاج ايوب ، وادريس اسماعيل الخياط ، واحمد الايوب الراوه جي ، ومحمود احمد ، ووهب النجار ، ومهدي صالح ، وبشير محمود حمدي الجراح ، واحمد عبالقادر ، وقد انيط امر تلقين الممثلين (أي المخرج ) بعبد المجيد شوقي ، وعهد الى حسيب عبدالفتاح بعمل وتصميم المكياج اللازم ، ولمل انتهى الممثلون من حفظ ادوارهم واجروا التطبيقات المقتضبه على مسرح النادي، الذي اقيم فوق سطح بنايته الواسعه واحضرت المناظر اللازمه المرسومه على الانسجه السميكه وهيئت الالبسه العربيه والروميه للممثلين ، قرر النادي تمثيل الروايه في الايام 9, 13 , 16 من حزيران 1924 ، وطبع البطاقات وتوجيه كتب خاصه الى الشخصيات الرسميه والاجتماعيه المعروفه في اللواء ، كما اذاع النادي بيانا الى اهل اللواء دعاهم فيه الى مشاهدة الروايه ، ولم يشأ النادي ان يحرم النساء من متعة المشاهده ، ولما كان كل من داري الحاج شيت الجومر وعبدالاحد مراد تطل على سطح بناية النادي ، رغم فصل شارع نينوى العام بينهما وبين بناية النادي ، فقد وجهت اللجنه المختصه كتابا الى كل من صاحبي الدارين المذكورتين ، طلبت فيه منهما ان يسمحا باشغال سطحي داريهما من قبل النساء الفضايات اللواتي دعين لمشاهدة الروايه فوافقا على ذلك بكل ارتياح ، وقد ساهمت الفرقتان الموسيقيتان التابعتان لكل من مدرسة الطاهره للسريان الكاثوليك ، والنادي الكلداني في عزف القطع الموسيقيه المناسبه خلال ايام تمثيل الروايه .).
نفهم من رواية الغلامي ان المسرح في الموصل بدأ من المسرح الكنسي التي كانت تقدمها المدارس المسيحيه في مناسباتها واخذ منه التقنيه والفكره ، و بفضل النادي الادبي انفصل عن هذا المسرح واخذ يتناول المواضيع التاريخيه الدنيوي بدلا من الدينيه ، ومن وصفه للتحضيرات المسرحيه في لجنة النادي ، من ديكور وملابس وماكياج ، و كانت هناك مهمة (الاخراج) ايضا التي يسميها بالتلقين ، و اعداد مكان العرض سطوح البنايات الكبيره ، والدعايه للمسرحيه ، والعلاقه بالجمهور وتحشيده للعرض ، ان المسرح في الموصل قد قطع في فتره قصيره شوطا كبيرا في التقدم والنضوج بالعمل المسرحي تكنيكا وفنا وتنظيما .
وبعد توقف ( النادي الادبي ) عن نشاطه المسرحي في المدينه ، شكل لفيف من المعلمين في المدارس التي كانوا يشرفون ويقومون بالنشاطات المسرحيه المدرسيه فيها ، ومعظمهم من معلمي اللغه العربيه ، فرقة ( دار التمثيل العربي في الموصل ) لتواصل مهمة ( النادي الادبي ) في مجال المسرح ، من ابرز هؤلاء المعلمين المربي والكاتب المسرحي ( يحيى . ق) ويذكر الغلامي ان النادي الادبي بعد ان توقف عن العمل ، قد اهدى جميع لوازمه المسرحيه للفرقه الناشئه تشجيعا منه لها ، مثل الالبسه التاريخيه والرماح والستائر والاعلام..الخ .
وعرضت ( فرقة دار التمثيل العربي في الموصل ) عددا من المسرحيات منها مسرحية ( العفو عند المقدره ) و مسرحية ( شهداء الوطنيه ) ومسرحية ( فتح الاندلس ) ومسرحية ( فتح عاموريه ) ومسرحية (فتح مصر ) ومسرحية ( وفاء العرب ) .
ويذكر عبد المنعم الغلامي انه كان يقوم احيانا بتلقين الممثلين ( أي يقوم بالاخراج) وكان كل من حسيب عبد الفتاح ومصطفى نوري يقومان بترتيب هيآت الممثلين ( الماكياج) و( رفعت شوكت ) المولع بالتمثيل السينمائي يحضر للفرقه للاستفادة من ارشاداته في التمثيل ، واعتاد فاضل الصيدلي ان يلقي القصائد الشعريه قبل عرض المسرحيه وخلال الاستراحات .
وكادت( فرقة دار التمثيل العربي في الموصل ) ان تتوقف بعد ان غادر عدد كبير من اعضائها المهمين الى خارج الموصل ، فجاء عبدالعزيز ملا ذنون القصاب ، واخذ على عاتقه احياء الفرقه بمجموعه جديده من الممثلين ، واستخدم دار السينما التي بنيت انذاك في المدينه ليعرض على مسرحها مسرحياته التي قام باخراجها وهي مسرحية ( حرب البسوس ) ومسرحية ( عنتره العبسي ) ومسرحية ( ابن عبدالله الصغير آخر ملوك بني الاحمر في الاندلس ) وهذه الاخيره مثلت لمنفعة الميتم الاسلامي الملحق بجمعية البر الاسلاميه ، وتوقفت الفرقه عن النشاط بعد هذا العمل وذلك في عام 1925 .
في هذه الفتره انتعش المسرح والنشاط الثقافي في الموصل ، وافتتحت فيها دار للسينما ، الى جانب ازدهارالفنون الاخرى كالغناء والرقص ، مما دفع بجريدة ( العراق ) في اعدادها الصادره في شباط من عام 1924 ان تستنجد بالحكومه لتأخذ دورها ، فتنشر مايلي ( .. ان مكانات الرقص والطرب ومراسح اللهو قد كثرت في الموصل ، وكثر معها تذمر الموصليين من نتائجها التي لاتحمد ، فعسى ان تعطف الحكومة انظارها ..)
لقد زار العراق في هذه الفتره ، وابتداءا من عام 1910 عدد من الفرق المسرحيه التركيه والمصريه وكانت هذه الفرق تقوم بجوله فنيه لاهم الالويه والولايات العراقيه ومنها الموصل ، من هذه الفرق ( فرقة عبدالنبي ) و( فرقة كشكش بيك ) و(فرقة البدوي )و ( فرقة ابراهيم سامي ) و( فرقة ارطغرل بيك )
_____________________________________________________________________.
1-( تاريخ النهضه الفنيه في العراق الحديث ) - عبد المنعم الجادر .
2- الحركه المسرحيه في العراق - احمد فياض المفرجي - الطبعه الاولى / بغداد شباط 1965 .
3- ( اسرار الكفاح الوطني في الموصل) - عبد المنعم الغلامي . </BLOCKQUOTE>